إيران وإسرائيل- رسائل متبادلة أم استعراض قوة وتجنب للمواجهة الشاملة؟

يبدو أنَّ نطاق الخيارات المتاحة أمام إسرائيل للردّ على الضربة الإيرانية يكتنفه التعقيد والصعوبة، وذلك نظرًا لما يحيط بها من مُحدّدات واعتبارات جمّة تتحكّم بتوقيت الردّ وحجمه. وفي مقدّمة هذه الاعتبارات، يأتي الموقف الأميركي الذي لا يرغب بالانخراط في حربٍ مع إيران، ويرفض أيَّ توسّع للصراع في المنطقة، وذلك لحساباتٍ عديدة تتعلّق بالتنافس المحتدم مع روسيا والصين على الصعيد الدولي، بالإضافة إلى اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية. علاوةً على ذلك، تعاني إسرائيل من استنزافٍ شديدٍ نتيجةً لانغماسها في حرب غزة، ممّا يحدّ من قدرتها على فتح جبهةٍ جديدةٍ في الوقت الراهن.
ومع ذلك، فإنَّ المتتبّع لتصريحات قادة الاحتلال وتهديداتهم الإعلامية يلاحظ وجود فجوةً شاسعةً بين هذه التصريحات والتهديدات وبين حجم الضربة التي وجّهتها إيران لإسرائيل. فالرد الإسرائيلي جاء باهتًا ومبهمًا وغامضًا في مدينة أصفهان، حيث امتنعت إسرائيل عن إعلان مسؤوليتها عن هذه الضربة حتى يومنا هذا. والجدير بالذكر أنَّ هذه الضربة لم تتسبّب بخسائر تُذكر على المستويات كافة، سواء العسكرية أو الاقتصادية أو المدنية.
لقد أسهمت الضربة الإيرانية في إعادة تأهيل صورة إسرائيل في نظر الغرب، بعد أن كانت تعاني من عزلةٍ خارجيةٍ خانقة. فسرعان ما هرعت الدول الغربية لتقديم الدعم الكامل لإسرائيل في التصدّي للهجوم الإيراني. وقد تجلّى هذا الدعم بوضوح في السياسة الأميركية التي تحوّلت من مجرّد انتقادٍ ودعمٍ مشروط لحكومة نتنياهو إلى دعمٍ مطلق ومشاركة فعلية في التصدّي للهجوم الإيراني. والجدير بالذكر أنَّ الحكومات الغربية تمرّ بمرحلةٍ حرجةٍ للغاية أمام شعوبها والرأي العام العالمي، وذلك نتيجةً للدعم المطلق الذي تقدّمه لحكومة نتنياهو على المستويات كافة، السياسية والاقتصادية والعسكرية، ممّا يُظهر ازدواجية معايير فاضحة في التعامل مع قضايا المنطقة، وخاصةً القضايا الإنسانية. ففي الوقت الذي تنتقد فيه هذه الدول روسيا على جرائمها في أوكرانيا، فإنّها تدعم جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة على مرأى ومسمع من العالم الغربي "المتحضّر" الذي يُنادي بحقوق الإنسان.
ولا يمكن إغفال الفشل الذريع الذي منيت به المنظمات الأممية التابعة للأمم المتحدة في وقف هذه المجازر أو حتى إدانتها، وذلك بسبب الدعم الأميركي والغربي اللامحدود لحكومة الاحتلال تحت ذريعة "الدفاع عن النفس". بل إنَّ هذه المنظمات شريكةٌ في هذه الجرائم ضد الإنسانية، لكونها هي التي تمدّ إسرائيل بالسلاح. فالجهة التي تستطيع إدخال الأسلحة إلى إسرائيل لقتل المدنيين، تستطيع بكل تأكيد إدخال المساعدات الطبية والغذائية، ولكنّها تتبع سياسة التجويع الممنهج بحقّ الفلسطينيين.
الحرب النفسية والتهديدات الإيرانية
لقد أثارت التصريحات الإيرانية حالةً من الذعر والهلع في أوساط المجتمع الإسرائيلي، وذلك قبل تنفيذ الضربة التي جاءت ردًا على قصف القنصلية الإيرانية في دمشق بتاريخ الأول من أبريل/نيسان الجاري. وقد تجلّى ذلك من خلال التصعيد المكثّف للحرب الإعلامية والنفسية، حيث أطلق القادة الإيرانيون سلسلةً من التهديدات والتصريحات النارية التي تتوعد بالانتقام للضربة التي أسفرت عن مقتل عددٍ من قادة الحرس الثوري الإيراني، وعلى رأسهم "العميد محمد رضا زاهدي"، قائد قوات فيلق القدس في سوريا ولبنان، والمسؤول عن قيادة وإدارة العمليات الخارجية للحرس الثوري الإيراني. وفي هذا السياق، صرّح "حسين علايي"، القيادي في الحرس الثوري، بأنَّ "أفضل ردّ هو إبقاء إسرائيل في حالة خوف دائم". والجدير بالذكر أنَّ هذه الضربة كشفت عن فشل استخباري كبير للمنظومة الأمنية الإسرائيلية التي لم تستطع تقدير العواقب والتداعيات المحتملة لهذه الضربة على الأمن القومي الإسرائيلي.
وقد اتّهم وزير الخارجية الإيراني "حسين عبد اللهيان" الولايات المتحدة الأميركية بإعطاء الضوء الأخضر لقصف القنصلية الإيرانية، بينما أكّد المرشد الإيراني علي خامنئي على ضرورة معاقبة إسرائيل، وأنَّها "ستُعاقب". وقد سعت الولايات المتحدة الأميركية للتواصل مع إيران عبر قنواتٍ دبلوماسية عديدة من خلال بعض دول المنطقة، وذلك بهدف احتواء الأزمة ومنعها من التحوّل إلى حربٍ إقليمية شاملة، إلّا أنّها فشلت في ثني إيران عن الرد، خاصّةً بعد أن أصبحت إيران أكثر جرأةً على كسر الخطوط الحمراء مع تل أبيب، التي بدت واهنة وغير قادرة على الدفاع عن نفسها، وذلك على خلفية أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
وتشير بعض التسريبات إلى أنَّ الضربة الإيرانية ستكون محدودة النطاق، ولن تؤدي إلى توسيع دائرة الصراع في المنطقة. وقد صرّحت واشنطن بأنّها ملتزمة بأمن إسرائيل، وأنّها ستساعدها في التصدّي للهجوم الإيراني، إلّا أنّها لن تشارك في أيّ هجومٍ على إيران، وذلك حرصًا منها على عدم تصعيد الصراع وتوسيع نطاقه في المنطقة.
الإصرار الإيراني على الردّ
إنَّ إصرار إيران الراسخ على الرد العسكري على إسرائيل له دوافعه الداخلية والخارجية المتشابكة. فمن غير الممكن السكوت على توجيه ضربات مباشرة للسيادة الإيرانية دون أن يكون هناك ردعٌ أو عقابٌ يتناسب مع هذه التجاوزات الإسرائيلية، وذلك بهدف إعادة ترسيخ الخطوط الحمراء، ووضع قواعد اشتباك جديدة، خاصّةً وأنَّ الضربة الإسرائيلية الأخيرة تُعدّ خرقًا صارخًا لقواعد الاشتباك المعمول بها سابقًا في المنطقة بين الجانبين، والتي كانت تتّسم بالمواجهة غير المباشرة جغرافيًا من خلال الضرب في مناطق النفوذ الإيراني.
كما أنَّ إيران ترى أنَّ قواعد الاشتباك بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023 قد تغيّرت بالنسبة للقيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية، وذلك بعد تآكل منظومة الردع لديها. لذلك، فإنَّ إيران لن تقبل ولن تنتظر بعد اليوم أيّ عملية عسكرية جديدة على غرار تلك التي جرت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. إضافةً إلى ذلك، فإنَّ مكانة إيران الإقليمية والدولية أصبحت على المحك أمام شعبها وحلفائها في المنطقة، وأنَّ نفوذها في سوريا مهدّد بالزوال بعد استهداف مواقع سيادية إيرانية، ممّا يستدعي الرد الفوري، واستعادة الردع العسكري لوقف هذه الهجمات.
محددات الردّ الإيراني
ممّا لا شكّ فيه أنَّ محددات الرد الإيراني على إسرائيل كثيرة و متشعبة، خاصّةً وأننا وصلنا إلى ذروة التصعيد الذي يُنذر بالانتقال إلى مواجهة محدودة أو إلى مواجهة شاملة ومفتوحة. وهذا يعني أننا على أعتاب حربٍ إقليمية شاملة، خاصّةً إذا تدخلت فيها أطراف أخرى كالولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الغربية الداعمة لإسرائيل. و هذا يعني أنَّ النفوذ الإيراني في المنطقة سيتعرّض لزلزالٍ عنيف قد يؤدي إلى زواله أو إضعافه في حالة المواجهة المفتوحة، ولا سيما إذا استهدفت المصالح الأميركية في المنطقة.
يُضاف إلى ذلك أنَّ إيران لن تتحمّل التداعيات والتبعات السلبية في هذه الفترة الحرجة التي تمر بها، وسط تحديات جمّة تتعلّق بالوضع الداخلي المتردّي الذي يعاني من نقاط ضعف أمنية كبيرة على مستوى المنظومة الأمنية الإيرانية، والتهديدات الداخلية المسلّحة، وعلى رأسها "جيش العدل" الذي توغل في الفترة الماضية إلى عمق الأراضي الإيرانية في "سيستان" و"بلوشستان" في مدينتي "راسك" و"تشابهار"، ودارت مواجهات عنيفة مع الحرس الثوري الإيراني، ممّا يُعدّ رسالة فوضى و تهديد مباشر للعبث في الداخل الإيراني. هذا بالإضافة إلى الجماعات الكردية المسلحة المتواجدة في شمال العراق، و"جماعة مجاهدي خلق" وإمكانية حصولها على الدعم الدولي في حال تحوّل الصراع إلى مواجهات مفتوحة، ناهيك عن الوضع الاقتصادي المتأزم، والوضع الإقليمي الرافض للهيمنة الإيرانية في المنطقة.
تقييم الضربة الإيرانية
لقد تباينت التقييمات العسكرية والسياسية فيما يتعلق بالضربة الإيرانية لإسرائيل. فبينما ذهب البعض إلى اعتبارها مسرحية هزيلة الإخراج، وصفتها إيران بأنها نصرٌ مؤزر، وأنها كانت ضرورية لوضع حدٍّ للغطرسة الإسرائيلية في التعامل مع المصالح الإيرانية المباشرة وغير المباشرة. وهذا يعني أنها كانت ملحّة لاستعادة الردع الإقليمي، دون الانخراط في مواجهة شاملة قد تشعل المنطقة بأكملها.
وهذا يفسّر لنا قيام إيران بإبلاغ بعض دول المنطقة بأنَّ اشتراك القواعد الأميركية في أيّ عمل هجومي ضد طهران سيجعلها أهدافًا مشروعة للقوات الإيرانية. والجدير بالذكر أنَّ إيران أطلقت على هذه العملية العسكرية ضد إسرائيل تسمية "الوعد الصادق"، حيث أطلقت أكثر من (130) طائرةً مسيرة مفخخة و(120) صاروخًا باليستيًا و (30) صاروخ كروز في 14 أبريل/نيسان الجاري، بحسب ما أحصته صحيفة "واشنطن بوست". وقد وصف الرئيس الإيراني "إبراهيم رئيسي" الهجوم بأنه "كان إجراء محدودًا وعقابيًا"، خاصّةً وأنَّ الهجوم استمر لعدّة ساعات.
لقد حملت الضربة الإيرانية رسالةً واضحةً مفادها أنَّ قواعد الاشتباك قد كُسرت، وأنَّ الأمور ستختلف بعد اليوم على جميع المستويات، وخاصةً على المستويَين: الإستراتيجي والعملياتي، وذلك لأنَّ إسرائيل قامت بانتهاكها، ممّا يعني أنَّ تهديد الأمن القومي الإيراني سيُقابل بالمثل، ولن يتم تجاهل أيّ هجمة بعد اليوم، على الأقل حسب التصريحات التي صدرت. والجدير بالذكر أنَّ الضربة التي نفذتها إيران لا تحمل أيّ قيمة عسكرية من ناحية التدمير المادي، وذلك لبُعد المسافة، وبُطء الطائرات المسيرة وعدم تطورها، وكذلك صواريخ كروز التي كانت في غالبيتها من الجيل الأول، وهي قديمة وغير متطورة أيضًا، قياسًا بما وصلت إليه الترسانة الصاروخية الإيرانية من تطور.
وهو الأمر الذي أفضى إلى نجاح إسرائيل وحلفائها في التعامل مع التهديد الإيراني، بعد أن تم إسقاط أكثر من 99% من الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية، لا سيما وأنَّ الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا شاركت عمليًا في التصدّي للهجوم الإيراني، فيما تزعم إسرائيل أنَّ دفاعاتها الجوية ومنظوماتها الصاروخية قد نجحت في إسقاط أكثر من 84% من الصواريخ والطائرات الإيرانيّة.
القدرات الإسرائيلية وإمكانية الردّ
قبل الخوض في الحديث عن القدرات العسكرية الإسرائيلية وإمكانية الرد على إيران، لا بدّ لي من استعراض الموقف العسكري العام لأقول في هذا السياق: إنَّ فتح جبهات متعدّدة من مناطق جغرافية مختلفة، يزيد من إضعاف القدرات العسكرية الإسرائيلية، ويخفف الضغط على قطاع غزة. والجدير بالذكر أنَّ إسرائيل تواجه تهديدات خطيرة على جبهات متعدّدة، ومنها الجبهة الشمالية مع لبنان التي تتزايد فيها العمليات العسكرية، وكان آخرها وأقواها عملية "عرب العرامشة" التي أدت إلى سقوط (18) جنديًا بين قتيل وجريح، فيما تتصاعد المواجهات والاشتباكات في الضفة الغربية، بينما تستمر العملية البرية في غزة، والتهديد بالذهاب إلى معركة رفح، ناهيك عن جبهة الحوثي، وكذلك تنفيذ المجاميع المسلحة العراقية التابعة لإيران بعضَ الضربات على أهداف داخل الأراضي المحتلة، بالإضافة إلى الجبهة السورية.
وهو الأمر الذي يقودنا إلى القول بوجود إنهاك واستنزاف للقدرات العسكرية الإسرائيلية؛ نتيجة الخسائر الكبيرة التي مني بها الجيش الإسرائيلي على الصعيد الميداني، حيث بدأت تظهر بعض الأرقام عن هذه الخسائر، ومنها وجود (7200) معاق منذ بدء العملية العسكرية في 7 أكتوبر/تشرين الأول، حسب ما أقرت به شعبة التأهيل في وزارة الدفاع الإسرائيلية، وقال موقع "والا" الإسرائيلي: إنَّ تل أبيب تسجل يوميًا (60) معاقًا، ناهيك عن عدد القتلى في الجيش الإسرائيلي.
الأمر الآخر، أنَّ الجيش الإسرائيلي يعاني من نقص كبير في الذخائر والمعدات على الرغم من أنَّ إسرائيل دولة مصنِّعة للأسلحة والمعدات العسكرية، وتتلقى دعمًا عسكريًا ولوجيستيًا كبيرًا من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وألمانيا، والكثير من الدول الغربية، ممّا يعني أنَّ فتح أي مواجهة جديدة مع إيران سيكون ضربًا من الجنون على المستوى العسكري، لا سيما وأنَّ الوضع الداخلي محتقن ضد حكومة "نتنياهو"، حيث تُتَّهم بتغليب مصالحها الشخصية على مصالح البلد.
وهناك انقسام حاد على المستويَين: السياسي والعسكري، وهناك تردٍّ ملحوظ على المستويَين: الاقتصادي والاجتماعي، ممّا يعني أنَّ فتح جبهة إيران بصورة حقيقية سيكون مغامرة ومجازفة غير محسوبة؛ لأنها ستختلف عما تخوضه من معارك في قطاع غزة، لأننا نتكلم عن دولة تمتلك من القدرات العسكرية الكثير، ما يمكنها من جعل المواجهة العسكرية قاسية وعنيفة ومدمّرة.
وقد بدأت الأصوات تتعالى بضرورة الذهاب إلى انتخابات مبكرة، كما أنَّ هناك مطالبات قوية بإبرام صفقة لتبادل الأسرى، وهذا يجعلنا نجزم بأنَّ تقدير الموقف على جميع المستويات لا يسمح لإسرائيل بأن تقوم بأي ضربة عسكرية وازنة وعنيفة ضد إيران، على الأقل في هذه الفترة، لأنها لن تتحمل تبعات هذه الضربة في حال قررت إيران أن ترد بقوة، لا سيما وأنَّ أي ضربة ستكون مختلفة عما ذهبت إليه إيران في 14 أبريل /نيسان عندما تم إسقاط جميع الطائرات المسيرة والصواريخ التي أطلقت باتجاه إسرائيل، خاصّةً إذا اشترك وكلاء إيران في هذا الردّ!
طائرات مسيرة تضرب في أصفهان
سأبدأ في طرح تساؤل جوهري؛ ألا وهو: هل يمكن لنا أن نعتبر إرسال ثلاث طائرات إسرائيلية مسيرة طراز "كواد كوبتر" إلى إحدى القواعد الجوية في أصفهان ردًا عسكريًا إسرائيليًا وازنًا يوازي الضربة الإيرانية التي لم تسفر عن أي خسائر مادية؟، أم أنَّ كلا الهجومين لا يشكلان قيمة عسكرية تُذكر؟ وبالتالي، هل هي مجرد رسائل سياسية بوسائل عسكرية متبادلة، لا يهدف فيها الطرفان إلى التصعيد والمواجهة الشاملة، ولكن يهدفان إلى استعراض القوة، وتذكير الطرف الآخر بما يمكن القيام به!، خاصّةً وأنَّ إسرائيل أزبدت وأرعدت وهددت بالرد على إيران، ولكن يبدو أنَّ الأقوال تختلف عن الأفعال، وكما يقول المثل: "تمخض الجبل فولد فأرًا".
ويكفي أن أصف الضربة الإسرائيلية على إيران بما قاله وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير "بأنّه مسخرة". فإرسال ثلاث طائرات مسيرة صغيرة الحجم إلى مدينة أصفهان التي تعج بالأهداف النووية والاقتصادية والتصنيعية والجوية دون استهداف أي منها أو التسبب في أي خسائر فيها، يثير الكثير من علامات الاستفهام؟
لذا نقول: هي ضربة محدودة غير مؤثرة ولا يعتد بها. والجدير بالذكر أنَّ الطائرات اقتربت من إحدى القواعد الجوية وتم التعامل معها وإسقاطها جميعًا من قبل الجيش الإيراني، كما أنَّ إيران تعاملت مع الهجوم على أنه عمل وحادث أمني ليس إلا!، ولم توجه إيران الاتهام لإسرائيل على هذا الحادث إلى الآن، وهناك من يرجح أنَّها أطلقت من الداخل الإيراني من خلال عملاء تابعين لإسرائيل.
الأمر الآخر الذي نود الإشارة إليه؛ هو إذا كانت إسرائيل تقف وراء هذا الهجوم، فهل يمكن لنا أن نسميه هجومًا وردًا عسكريًا وازنًا على إيران؟، أم حادثة أمنية لا تستحقّ الردّ عليها! ولا يوجد هجوم خارجي، كما تزعم إيران. وإذا كانت هذه الطائرات عبارة عن هجمات لجسّ واستطلاع الوضع في المنطقة، فهذا يعني أنَّ إمكانية الرد الإسرائيلي على إيران لا تزال قائمة، خاصّةً وأنَّ هذا الهجوم لا ينسجم مع الهجوم الإيراني على إسرائيل كردّ وهجوم مماثل، الأمر الذي يثير الكثير من التساؤلات حول طبيعة هذه الضربة التي لا تشكل أيّ قيمة عسكرية على المستويين: الإستراتيجي والعملياتي، بل إنها حطت من هيبة الجيش الإسرائيلي أكثر من ذي قبل؛ لعجزه عن الردّ بنفس مستوى الهجوم الإيراني.
وتأتي هذه الضربة في ظل محادثات أميركية – إسرائيلية ناقشت الرد دبلوماسيًا مرفقًا بعقوبات أميركية على كيانات وشخصيات إيرانية؛ للمحافظة على التحالف الذي وقف مع إسرائيل في ردّ الهجوم الإيراني، أو أن يكون هناك رد عسكري رمزي المراد منه إيصال رسالة مفادها أنَّ إسرائيل تستطيع أن تنفذ ضربات في الداخل الإيراني، وأنَّ الضربة الإيرانية لن تثني إسرائيل عن تنفيذ هذه الضربات، ولن يتم استعادة الردع الإقليمي، كما تقول إيران، ولن يتم تغيير قواعد الاشتباك الجديدة التي وضعتها إسرائيل بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول والتي تجاوزت فيها إيران الخطوط الحمراء بالانتقال من حرب الظل إلى الضربات المباشرة، لأنَّ إسرائيل تخشى من تآكل إستراتيجية الردع الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
إسرائيل لن تردّ بقوة على إيران إلا في حالات معينة
ممّا لا ريب فيه أنَّ إسرائيل تعاني معضلة أمنية وسياسية كبيرة وخطيرة داخليًا وخارجيًا؛ لأنَّ هناك معادلة جديدة تفرضها تطورات المنطقة على مستوى القضية الفلسطينية، وعلى مستوى المنطقة بشكل عام بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. لذا نرى أنَّ هناك تباينًا واضحًا في الرد بين إيران وإسرائيل، حيث أعلنت الأولى عن نيّتها في الرد، وأرسلت أكثر من (300) طائرةٍ مسيرة وصاروخٍ باليستي وكروز، بينما التزمت إسرائيل الصمت والغموض والترقب حيال هجوم أصفهان، ولم تجرؤ على إعلان مسؤوليتها عن الهجوم حتى يومنا هذا!
وهذا يعتبر ردًا غير مسبوق ينمّ عن ضعف كبير في إستراتيجية الردع، على الرغم من التسريبات التي أعلنتها صحيفة "واشنطن بوست" التي تقول: إنَّ مسؤولًا إسرائيليًا رفيع المستوى يقول: إنَّه تم شن غارة جوية على إيران ردًا على الهجوم الإيراني في 14 أبريل /نيسان. لذلك نقول: إنَّ إسرائيل لن تذهب إلى تنفيذ ضربة عسكرية معتبرة ووازنة لإيران إلا في الحالات التالية:
- أن يكون هناك ضوء أخضر صريح من الولايات المتحدة الأميركية لتنفيذ ضربة عسكرية لإيران، ممّا يعني أنَّ أميركا قد اتخذت قرارًا بالذهاب إلى توسيع نطاق الصراع في المنطقة وفقًا لمقتضيات الأمن القومي الأميركي، خاصّةً مع وجود هذا الحشد العسكري الأميركي الضخم في المنطقة، بما في ذلك وجود غواصات نووية، وحاملات طائرات، وقطع بحرية، فضلًا عن القواعد الأميركية المنتشرة في المنطقة.
وهذا يتطلب سماحًا لإسرائيل بتنفيذ مثل هذه الضربة على إيران، ممّا يعني وجود حسابات أميركية دقيقة في معرفة ردود الأفعال المحتملة على هذه الضربة، لأنَّ واشنطن لن تقف مكتوفة الأيدي في حال تعرضت إسرائيل للضربة، والدليل على ذلك هو التصدّي للهجوم الإيراني في 13 أبريل /نيسان الماضي. وأعتقد أنَّ إدارة بايدن لا تفضل هذا الخيار على الأقل في الوقت الراهن، لأسباب عديدة، منها اقتراب موعد الانتخابات الأميركية، وكذلك حسابات التنافس مع الصين وروسيا من ناحية القوة والنفوذ على المستوى الدولي، إضافةً إلى عدم الرغبة في الانغماس في حرب إقليمية في هذه المنطقة التي تعجّ بالمصالح الأميركية.
- الأمر الثاني: هو أنَّ إسرائيل دولة نووية، وبالتالي يمكن لها أن تلجأ إلى التصعيد بالاعتماد على ما تمتلكه من ترسانة نووية، بحيث يمكن أن تستخدم قنابل نووية تكتيكية للردع، خاصّةً إذا ما شعرت بأنها مهددة من عدة جبهات، ممّا يعني استخدام الأسلحة النووية للردع على غرار ما جرى في ناغازاكي وهيروشيما في اليابان؛ لإجبار هذه الأطراف على وقف التصعيد والقبول بشروط إسرائيل في المنطقة. ولكن السؤال الخطير الذي يطرح نفسه هو: إذا تبيّن أنَّ إيران تمتلك هذه الأسلحة سواء بالتصنيع أو بالشراء من الاتحاد السوفياتي السابق، فكيف ستتعامل إسرائيل مع هذا التطور الخطير؟
ميادين أخرى يمكن الرد فيها
- ممّا لا جدال فيه أنَّ هناك ميادين أخرى يمكن الرد فيها من خلال استمرار الغارات الجوية الإسرائيلية في سوريا والعراق ولبنان واليمن، على غرار ما يجري في جميع هذه الساحات سابقًا من خلال استهداف المواقع العسكرية والاستخبارية ومواقع الدعم اللوجيستي، ممّا يعني أنَّ هذا الخيار سيبقى ضمن قواعد الاشتباك القديمة التي تشمل الضرب في ساحات غير مباشرة. ولكن السؤال المطروح هو: ماذا لو تم استهداف قيادات ومواقع عسكرية إيرانية بشكل مباشر؟ كيف سيكون الموقف الإيراني الذي يقول: لن نسمح باستهداف المواقع الإيرانية في جميع الساحات بعد الآن؟!، وأنَّ أي استهداف من هذا القبيل لن يمر بلا عقاب.
- أن تكون الهجمات الإسرائيلية سيبرانية وإلكترونية تشمل جميع المواقع النووية والعسكرية والمدنية ومصانع الأسلحة والذخائر، بما في ذلك المصالح الاقتصادية، ممّا يعني أنَّ المواجهة قد انتقلت لتشمل ميادين أخرى، سبق أن تم استهدافها، وإن كانت عسكرية وحيوية مهمة أو أمنية واستخبارية، ولكنّها ستؤثر بصورة مباشرة على الوضع العام للدولة، ممّا يعني تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الإيراني، ولكن في ميادين أخرى.
يظهر جليًا أنَّ إيران وإسرائيل لا ترغبان في الذهاب إلى مواجهة مفتوحة على الأقل في هذه الفترة الحرجة التي يمر بها الطرفان، كما أنَّ هذه الرؤية تتفق مع رؤية الولايات المتحدة الأميركية التي لا تريد توسيع نطاق الصراع في المنطقة التي تعجّ بالمصالح الأميركية الحيوية. كما أنَّ هذه الضربات لا تحمل في طياتها قيمة عسكرية إستراتيجية فعلية، ما عدا تبادلًا للرسائل واستعراضًا للقوة، ومحاولة لرسم السيناريوهات المستقبلية المحتملة لكلا الطرفين.
ويبدو أنَّ كلا الطرفين يحظى بمن يقف وراءه في الدعم والإسناد، ممّا يعني أنَّ قرار المواجهة ليس قرارًا مستقلًا عن الأحداث والتطورات المتسارعة التي تجري في المنطقة، وإنما يخضع لأولوية التهديد والقدرة على مواجهته، خاصّةً وأنَّ غادي آيزنكوت يرى أنَّ "العدو الأضعف في الشرق الأوسط ألحق بنا الضرر الأكثر شدة"، ممّا يعني أنَّ أي مواجهة محتملة مع إيران ستكون مدمرة وقاسية للطرفين، خاصةً إذا كانت المواجهة حقيقية ومباشرة بين الجانبين، وسيبقى هذا الأمر رهنًا بتطورات الأحداث في المنطقة ومستجداتها.
